الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وسوف نلحظ هذا الإعداد الجديد في كُلِّ أمور الآخرة، ففيها مثلًا تقتاتون ولا تتغوطون؛ لأن طبيعتكم في الآخرة غير طبيعتكم في الدنيا.لذلك جاء السؤال من موسى عليه السلام سؤالًا علميًا دقيقًا: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] أي: أرِني كيفية النظر إليك؛ لأني بطبيعتي وتكويني لا أراك، إنما إنْ أريتني أنت أرى.وفي ضوء هذه الحادثة لموسى عليه السلام نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُخيِّروا بين الأنبياء، فإن الناس يُصْعقون يوم القيامة، فأكون أولَ مَنْ تنشقُّ عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صُعِق، أم حُوسِب بصَعْقة الأولى».قالوا: لأنه صُعِق مرة في الدنيا، ولا يجمع الله تعالى على عبده صَعقتَيْن.ثم يقول الحق سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ}.{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} أي: تُعرَض عليهم ليروها ويشاهدوها، وهذا العَرْض أيضًا للمؤمنين، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] والبعض يظن أن {واردها} يعني: داخلها، لا بل واردها بمعنى: يراها ويمرُّ بها، فقد ترِد الماء بمعنى: يراها ويمر بها، فقد ترد الماء بمعنى تصل إليه دون أنْ تشربَ منه؛ ذلك لأن الصراط الذي سيمر على الجميع مضروبٌ على ظهر جهنم ليراها المؤمن والكافر.أما المؤمن فرؤيته للنار قبل أنْ يدخل الجنة تُرِيه مدى نعمة الله عليه ورحمته به، حيث نجّاه من هذا العذاب، ويعلم فضل الإيمان عليه، وكيف أنه أخذ بيده حتى مَرَّ من هذا المكان سالمًا.لذلك يُذكّرنا الحق سبحانه بهذه المسألة فيقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].أما الكافر فسيعرض على النار ويراها أولًا، فتكون رؤيته لها قبل أن يدخلها رؤية الحسرة والندامة والفزع؛ لأنه يعلم أنه داخلها، ولن يُفلِتْ منها.وقد وردتْ هذه المسألة في سورة التكاثر حيث يقول تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 18].والمراد: لو أنكم تأخذون عنِّي العلم اليقيني فيما أُخبركم به عن النار وعذابها لكُنْتم كمنْ رآها، لأنني أنقل لكم الصورة العلمية الصادقة لها، وهذا ما نُسمِّيه علم اليقين، أما في الآخرة فسوف ترون النار عينها. وهذا هو عين اليقين أي: الصورة العينية التي ستتحقق يوم القيامة حين تمرُّون على الصراط.وبرحمة الله بالمؤمنين وبفضله وكرمه تنتهي علاقة المؤمن بالنار عند هذا الحد، وتُكتب له النجاة؛ لذلك قال تعالى بعدها: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 8].أما الكافر والعياذ بالله فلَهُ مع النار مرحلة ثالثة هي حّقُّ اليقين، يوم يدخلها ويباشر حَرَّها، كما قال تعالى: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} [الواقعة: 92- 96].إذن: عندنا عِلْم اليقين، وهو الصورة العلمية للنار، والتي أخبرنا بها الحق سبحانه وتعالى، وأن من صفات النار كذا وكذا وحذَّرنا منها، ونحن في بحبوحة الدنيا وسِعَتها. وعَيْن اليقين: في الآخرة عندما نمرُّ على الصراط، ونرى النار رؤيا العين. ثم حَقُّ اليقين: وهذه للكفار حين يُلْقَوْن فيها ويباشرونها فعلًا.وقد ضربنا لذلك مثلًا: لو قُلْتُ لك: توجد مدينة اسمها نيويورك وبها ناطحات سحاب، وأنها تقع على سبع جزر، ومن صفاتها كذا وكذا فأُعطِيك عنها صورة علمية صادقة، فإنْ صدَّقتني فهذا عِلْم يقين. فإنْ مررنا عليها بالطائرة ورأيتها رَأْيَ العين فهذا عَيْن اليقين، فإنْ نزلت بها وتجولت خلالها فهذا حَقُّ اليقين.إذن: فقوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100] ليس كعرضها على المؤمنين، بل هو عَرْض يتحقّق فيه حَقُّ اليقين بدخولها ومباشرتها. ثم يقول الحق سبحانه: {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ} أي: على أبصارهم غشاوة تمنعهم إدراك الرؤية، ليس هذا وفقط، بل: {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101].والمراد هنا السمع الذي يستفيد منه السامع، سَمْع العبرة والعِظَة، وإلا فآذانهم موجودة وصالحة للسمع، ويسمعون بها، لكنه سمَاعٌ لا فائدةَ منه؛ لأنهم ينفرون من سماع الحق ومن سماع الموعظة ويسدُّون دونها آذانهم، فهم في الخير أذن من طين، وأذن من عجين كما نقول.أما المؤمنون فيقول الحق تبارك وتعالى فيهم: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83].إذن: فكراهية أولئك للمسموع جعلتهم كأنهم لا سَمْعَ لهم، كما نقول نحن في لغتنا العامية: أنت مطنش عني، يعني لا تريد أنْ تسمعَ، ومن أقوال أهل الفكاهة: قال الرجل لصاحبه: فيك مَنْ يكتم السرَّ؟ قال: نعم، قال: أعْطني مائة جنيه، قال: كأنِّي لم أسمع.ولذلك حكى القرآن عن كفار مكة قولهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].يعني: شَوِّشُوا عليه، ولا تُعطوا الناس فرصة لسماعه، ولو أنهم علموا أن القرآن لا يؤثر في سامعه ما قالوا هذا، لكنهم بأذنهم العربية وملكتهم الفصيحة يعلمون جيدًا أن القرآن له تأثير في سامعه تأثيرًا يملك جوانب نفسه، ولابُدَّ لهذا العربي الفصيح أنْ يهتزّ للقرآن، ولابُدَّ أنه سيعرف أنه مُعْجِز، وأنه غير قَوْل البشر، وحتمًا سيدعوه هذا إلى الإيمان بأن هذا الكلام كلام الله، وأن محمدًا رسول الله؛ لذلك قال بعضهم لبعض محذرًا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26].وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 78].وقد يتعدَّى الأمر مجرد السماع إلى منْع الكلام كما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم: 9].فليس الأمر منْع الاستماع، بل أيضًا منع الكلام، فربما تصل كلمة إلى آذانهم وهم في حالة انتباه فتُؤثّر فيهم، أي منعوهم الكلام كما يُقال: اسكت، أو أغلق فمك.ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَحَسِبَ الذين كفروا}.قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَاءَ} [الكهف: 102] يعني: أعَمُوا عن الحق فظنُّوا أنْ يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟ وسبق أن تحدثنا عن كلمة {عِبَادي} وقلنا: إنهم المؤمنون بي المحبون لي، الذين اختاروا مرادات الله على اختيارات نفوسهم، وفرَّقْنا بين عبيد وعباد.والكلام هنا عن الذين كفروا الذين اتخذوا عباد الله المقربين إليه المحبين له أولياء من دون الله، كما قال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون} [النساء: 172]. فكيف تتخذونهم أولياء من دوني وتعاندونني بهم وهم أحبتي؟يقول تعالى: {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ومنهم مَنْ قال: الملائكة بنات الله، فكيف تتخذونهم أولياء من دون الله وهم لا يستنكفون أن يكونوا عبادًا لله، ويروْنَ شرفهم وعِزَّتهم في عبوديتهم له سبحانه، فإذا بكم تتخذونهم أولياء من دوني، ويا ليتكم جعلتُم ذلك في أعدائي، فهذا منهم تغفيل حتى في اتخاذ الشركاء؛ لذلك كان جزاءَهم أنْ نُعِدَّ لهم جهنم:{إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] والنُّزُل: ما يُعَدُّ لإكرام الضيف كالفنادق مثلًا، فهذا من التهكّم بهم والسُّخرية منهم. اهـ.
|